هل يمكن أن نعتبر أن الفن والأخلاق مفهومان متلازمان
وما العلاقة التي تربط بينهما ؟
في الواقع اذا كان تأثير الفن بكل اصنافه يحدث متعة وسحرا لدى المتلقي فإن الحديث عنه أصبح مؤلما ومحزنا في الوقت الراهن ان لم نقل عقيما .
الفن بدون رسالة وبدون أخلاقيات وبدون قيم إنسانية نبيلة هو عمل هابط ولا معنى له وبالتالي فهو يؤثر سلبا على المتلقى ,وقبل أن نغوص في الحديث عنه وعن علاقته بالأخلاق لا بأس أن نضع بين ايديكم تعريفا مبسطا لمفهوم الفن.
ليس هناك تعريف محدد لمفهوم الفن, فالتعاريف متعددة ونسبية حسب فلسفة علم الجمال
والشيء الذي تراه جميلا بالنسبة لك قد يراه الآخر غير ذلك .لكن العديد من التعاريف تتقاطع في نقط مشتركة : ومنها أن الفن نشاط ابداعي ينتجه الانسان مخالفا للمألوف اذ يخاطب الوجدان بسحره قبل أن يخاطب البصيرة .وهو أيضا اثارة لكينونة الذات ,و إعادة ربط الاتصال باللاوعي للتخفيف من معاناة خلفتها آثار سلبية على النفس فيزيحها الفن ويحولها الى طاقات إيجابية .بمعنى أن الفن علاج نفسي يريح الروح ويعيد إليها سكينتها .
والفنان لايرقى بفنه إلا إذا كانت ابداعاته تحمل بين طياتها اخلاقيات الصنعة ,فهو يولد من رحم المعاناة حيث ينقلنا الى عالم يسوده الخير والحب والسلام وينبذ الشر والحروب والاجرام.
عبر تاريخ الفنون كان الفن دائما مرتبطا بالأخلاق ,فالشعر فن , ووالتمثيل فن ,الكتابة فن, اولرسم فن والسينما فن, وكذلك .المسرح أبو الفنون , وكلمة فن بالمفهوم العامي المتداول هو الدقة في الصنع ,نجد في معجم اللغة أن الفن صنعة ,الفن جملة الوسائل التي يستعملها الإنسان لإثارة المشاعر والعواطف خاصة منها المرتبطة بعلم الجمال ,في العصور الوسطى زينت الكنائس بتماثيل ولوحات فنية على شكل جداريات رسمت على سقوفها وكانت في مجملها تحمل رسائل أخلاقية تدعو الى الخير ونبذ الشر والفوز بالجنة .وفي العالم الإسلامي زينت المساجد والقصور بفن التجريد والمنمنمات والفسيفساء غير المجسمة والتي سميت بفن الأرابيسك, وهو فن له قيمة جمالية تجعل الناظراليها في حالة استشراق وذهول وانبهار وسكينة تحول الفضاء وقد غطاه الوقار والعظمة , الا أن تاريخ الفنون عند الغرب كان دائما يقصي وعن قصد الفنون العربية الإسلامية من مجلداته وخير دليل على ذلك الهندسة المعمارية الجميلة بالأندلس حيث كانت تنسب لغير العرب .
فن الأرابيسك هو فن تجريدي قديم يعتمد في الأساس على أشكال ونماذج مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات والمرئيات الواقعية لأن الدين كان يحرم فن التصوير ونحت التماثيل بينما عند الغرب لم يظهر الفن التجريد الا في نهاية القرن التاسع عشر ميلادي مع واصيلي كاندنسكي الفنان الروسي رائد المدرسة التجريدية .وكانت الغاية من فن الأرابيسك في المساجد خصوصا إضفاء الطابع القدسي للمكان واعطاء إحساس بالأمن والأمان في حضرة الخالق .والا لما سمي المسجد ببيت الله .
وفي المقابل يلعب الفن دورا مهما في التغيير والمقاومة والتمرد على كل اشكال القمع والتسلط . نذكر
على سبيل المثال لا الحصر قصائد محمود درويش ونزار قباني و كتابات غسان كنفاني
ومقالات ممنوعة لسلامة موسى فقد كانت كلها نضالات من اجل الحرية والعيش الكريم للشعب الفلسطيني . وفي مجال الفنون البصرية اقدم رائد المدرسة التكعيبية الرسام الاسباني بابلو بيكاسو على رسم لوحة جدارية سماها غرنيكا والتي جسدت فضائع الحرب الأهلية حين قامت طائرات حربية المانية وايطالية مساندة للنظام الدكتاتوري الاسباني آنذاك بقصف مدينة غرنيكا .
هناك لوحة تشكيلية أخرى تعبيرية للفنان النورفيجي ادفارد مونش سميت بالصرخة والتي بيعت بثمن خيالي يقدر
ب120 مليون دولار. هذه اللوحة تجسد صرخة الفنان النابعة من معاناته وقلقه وخوفه من ضغوطات الحياة ,وهي لوحة ليست بالجميلة بقدر ما هي جد معبرة عن الرعب الذي يمارسه اشرار العالم المتحكمون في اقتصاده .
ختاما من هو الفنان الحقيقي ؟ هل الفنان الحقيقي هو من يتقن فن الرسم وله مهارات وقدرات عالية ؟, وله كم هائل من المعارف والمعلومات حول تصنيف المدارس وتاريخها وأسماء روادها , ويبيع لوحاته بأثمنة باهضة ويخلق سعادة مزيفة لزبنائه؟ .بالطبع لا.
وهل هو ذاك الشخص الذي ينصرف الى الفن التجريدي بسبب عجزه عن الابداع ليشكل بمواده هرطقات رمزية يكذب بها على زبنائه و متلقيه ,علما ان فن التجريد هو اسمى الفنون البصرية لما يحمله من فلسفة علم الجمال ,فالتجريد ليس في متناول كل من هب ودب فلنخجل من انفسنا وكفى كذبا على الذقون .
من هو الفنان الحقيقي إذن؟ هو انسان باحث في الثقافة البصرية مبتكر ومبدع ,له أفكار وانتاجات غير مألوفة وسابقة لعصره ,قد يظن الناس انه شخص مجنون وغريب الاطوار , لكن الواقع يؤكد انه أوسع الناس تخيلا واحسنهم اخلاقا واحساسا, أ ستحضر هنا رياض السنباطي الملحن الكبير والعالمي الذي لم ينل هذا الاستحقاق لأن الغرب لا يعترف لا بأبناء جلدته . الفنان إذن كنز من الاحاسيس , ولا عيب اذا قلنا أن هذا الفنان كثير الإحساس ,وهي ميزة تجعل منه فنانا حقيقيا يقود قاطرة التنمية .فلا تنمية اجتماعية سياسية و اقتصادية في غياب فنون راقية .
حسان أبوحفص
فنان تشكيلي و أستاذ علوم فيزيائية
المصدر : https://akhbarsettat.com/?p=8184