أي تصور وأية مقاربة لتدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة؟

هيئة التحرير
2020-08-23T13:17:04+01:00
كتاب و آراء
هيئة التحرير7 نوفمبر 2015آخر تحديث : الأحد 23 أغسطس 2020 - 1:17 مساءً
أي تصور وأية مقاربة لتدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة؟
مقدمة:

لقد بات من المؤكد أن القضية الأمازيغية دخلت، منذ الخطاب الملكي بأجدير في 17 أكتوبر 2001، مرحلة جديدة تستدعي مهامّ جديدة، وتطرح أسئلة جديدة كذلك. فلم تعد الأسئلة هي: هل الأمازيغية لغة تستحق أن تُعَامل بهذه الصفة؟؛ هل يمكن تدريسها؟؛ هل تصلح للاستعمال في الإدارة والقضاء؟؛ هل هي قادرة على أن تكون لغة علم ومعرفة؟؛ هل يمكنها أن تقوم بوظيفة اللغة الرسمية؟… وغير ذلك من الأسئلة “الغبية” التي لم يعد يطرحها اليوم إلا “أصحاب الكهف” من الذين لا زالوا يعيشون، فكريا وثقافيا، في ستينيات القرن الماضي، العصر الذهبي للنزعة الأمازيغوفوبية. وقد جاء ترسيمها في دستور 2011 ليعلن عن الموت الرسمي لهذا النوع من الأسئلة ذات الخلفية الأمازيغوفوبية.

أما الأسئلة الجديدة، التي تطرح اليوم بصدد الأمازيغية في مرحلتها الجديدة، وخصوصا بعد أن أصبحت لغة رسمية، فهي أسئلةً عملية تنصبّ على ما هو إجرائي وبيداغوجي وديداكتيكي، يتركز على كيفية التدريس الجدي لهذه اللغة، بهدف إدماجها، المستقبلي والتدريجي، في الإدارة والقضاء والإعلام وكل مؤسسات الدولة. لقد انتقل السؤال إذن من صيغة التشكيك والاستنكار “لماذا؟” إلى صيغة “كيف”، الإجرائية والعملية والمنهجية: كيف ندرّس الأمازيغية ونعمّم تعليمها لكل المغاربة، لتصبح مستقبلا لغة إدارة وتدريس، حتى تقوم بوظيفتها كلغة رسمية، تطبيقا للفصل الخامس من الدستور؟ ما هي أفضل وأنجع مقاربة لإنجاح تدريس الأمازيغية في المدرسة المغربية، ولكل المغاربة، وفي جميع الأسلاك والمستويات التعليمية؟

سنتطرق في هذه المناقشة إلى مجموعة من الإشكالات المرتبطة بتدريس الأمازيغية، والتي سنحللها بناء على افتراض أن هذا التدريس سينطلق (لأنه لم ينطلق بعدُ) بشكل جدي، فعّال وهادف، يرمي إلى تنمية الأمازيغية وتأهيلها تأهيلا حقيقيا، لتقوم بوظيفتها كلغة رسمية حقيقية.

ماذا ندرّس: اللهجات الجهوية أم لغة أمازيغية موحّدة ومشتركة؟

هذا هو السؤال الأول الذي يشكّل تحديا لمشروع تدريس الأمازيغية لجميع المغاربة. والجواب عنه ليس، كما يظن بعض النشطاء الأمازيغيين، سهلا وبسيطا إذا ما ناقشنا المسألة بواقعية، بعيدا عن الأجوبة السهلة التي تقدمها القناعات الإيديولوجية والمواقف النضالية.

ولأنني سأستعمل في هذا العرض مفهوم “لهجة”، بلا عقدة ولا حرج؛ ولأنني أعرف أن العديد من نشطاء الحركة الأمازيغية يرفضون إضفاء صفة “لهجة” على الأمازيغية، اقتناعا منهم ـ وعن حق ـ أن هذا الوصف يستعمله خصوم الأمازيغية تحقيرا لهذه اللغة وانتقاصا منها، لهذا فهم يفضلون استعمال، بدلها، عبارة “فروع” الأمازيغية، فإنني أودّ أن أوضّح أن الفرق بين اللغة واللهجة لم يعد، اليوم، يتحدد في كون «اللغة لهجة تملك جيشا وأسطولا حربيا» (Max Weinreich)، أي لهجة تدعمها وتحميها سلطة سياسية، واللهجة لغة بلا جيش ولا سلطة، وإنما الفرق ـ ولو أن النتيجة واحدة ـ يتحدد، اليوم بعد انتشار التعليم العمومي الإجباري، في كون “اللغة لهجة تملك مدرسة”، و”اللهجة لغة لا مدرسة لها”. فمعيار التمييز إذن بين اللغة واللهجة هو المدرسة. فكل لهجة تلِج المدرسة والكتابة ـ كنتيجة للمدرسة ـ، فهي لغة، وكل لغة محرومة من المدرسة والكتابة فهي لهجة. ولهذا فعندما أستعمل عبارة “اللهجات الأمازيغية”، فالمقصود هو اللغة الأمازيغية المحرومة من المدرسة والكتابة، التي تؤدي إليها هذه المدرسة. وبالتالي فإن السؤال حول إشكالية تدريس الأمازيغية، هو نفسه السؤال حول إشكالية الانتقال، بهذه الأمازيغية، من الوضع اللهجي إلى وضع لغة، أي الانتقال بها من الاستعمال الشفوي إلى الاستعمال المدرسي والكتابي.

نغلق هذا القوس ونعود إلى سؤالنا: تدريس اللهجات الجهوية أم لغة أمازيغية موحّدة ومشتركة؟

هناك أطروحتان حول الموضوع. لنتعرّف عليهما أولا قبل أن نتساءل عن إمكانية وجود أطروحة ثالثة، أو حل ثالث يتجاوز هذين الحلين الكلاسيكيين: تدريس اللهجات الجهوية أو لغة واحدة وموحّدة.

1 ـ تدريس لغة موحّدة: هذا ما تطالب به دائما الحركة الأمازيغية في غالبيتها. وهو ما يعمل باحثو المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية على تطبيقه، من خلال إعداد برامج تعليمية لتدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة.

حقيقة، يبدو نظريا أنه من السهل أن نقتنع ـ ونُقنع ـ أن الأمازيغية لغة واحدة، وأن ما يبدو لهجات ليس إلا اختلافات جهوية لا تأثير لها على وحدة الأمازيغية، هذه الوحدة التي تؤكدها الدراسات اللسانية والنحوية والمعجمية لهذه اللغة. ففضلا على أن تدريس اللهجات ـ كما يرى أصحاب هذه لأطروحة الوحدوية ـ ليس إذن ضروريا لأن هناك لغة أمازيغية واحدة، فإن هذا التدريس سيكرّر الممارسة الكولونيالية للحماية الفرنسية، عندما كانت تُدرّس الأمازيغية كلهجة محلية وليس كلغة وطنية واحدة.

إن تدريس اللهجات الجهوية سيؤدي إذن ـ دائما حسب رأي ألمدافعين عن هذه الأطروحة ـ إلى إضعاف الأمازيغية وتفتيتها، وبالتالي إبقائها، كما يريد المناوئون لها، مجرد لهجات لا ترقى إلى مستوى لغة وطنية. وهو ما سيتخذه هؤلاء المناوئون ذريعة لتكرار القول بأن الأمازيغية نزعة انفصالية وإقليمية، ترتبط بمناطق وبقبائل معينة، ولا تشمل كل الوطن. كما أن التكلفة المالية لتدريس اللهجات ستكون أكبر، نظرا لتعدد البرامج والكتب المدرسية وأنواع التكوين الخاص بالأساتذة، تبعا لتعدد اللهجات حسب عدد الجهات اللغوية.

لكن عندما نردّ على أصحاب هذا الموقف، المدافع عن تدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة، بأن هذه الأخيرة غير موجودة في الواقع على مستوى التواصل والتفاهم Intercompréhension بين أمازيغيي المغرب من كل مناطق المملكة ـ فبالأحرى بين الأمازيغيين من كل بلدان تامازغا ـ، ونطلب منهم أن يقدموا لنا تصورا عمليا حول كيفية تدريس هذه الأمازيغية المشتركة، فإنهم يجيبون بأن الأمازيغية المشتركة ليست بالضرورة هي الأمازيغية المستعملة في التواصل الشفوي اليومي، بل هي أمازيغية معيارية “فصحى”، غير مطابقة حقا للغة الأم، لكن لا تبتعد عنها كثيرا. ويوضّحون أن علاقة الأمازيغية المعيارية بفروعها اللهجية الجهوية، ليست مثل علاقة العربية الفصحى بالعامّيات العربية، التي هي في الحقيقة لغات أخرى لا تربطها إلا علاقة معجمية ضعيفة بالعربية الفصحى، مثل حالة الدارجة المغربية، مما يخلق هوة سحيقة بين لغة المدرسة ولغة البيت والحياة اليومية. ورغم أن الأمازيغية المعيارية سيتعلّمها التلميذ في المدرسة مثلما يتعلم العربية الفصحى، إلا أنها تشترك مع أمازيغية التخاطب الشفوي بنسبة تفوق 80%، كما يؤكد باحثو المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.

2 ـ تدريس اللهجات الجهوية: إذا كان مطلب تدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة مسألة قد حسم فيها المعهد الملكي للأمازيغية، ويشكّل موضوع إجماع تقريبا لدى الحركة الأمازيغية كما قلنا، فإنه مع ذلك يطرح عدة مشاكل وصعوبات من الناحية العملية والإجرائية، وهو ما يدعم موقف من يفضّلون تدريس اللهجات الجهوية.

الداعون إلى تدريس اللهجات الجهوية يبررون موقفهم بأدلة لا يخلو من جدية ووجاهة.

فهم يقولون إن هذه اللغة الأمازيغية المعيارية المشتركة غير موجودة، خلافا للعربية الفصحى. لهذا يسميها البعض، لإبراز بعدها عن الواقع اللغوي الأمازيغي الحي، باللغة “المخبرية” أو “الإركامية”، أي التي “فبركها” معهد الأمازيغية (ليركام). فهي، عند هؤلاء، لغة افتراضية يتم صنعها بانتقاء بعض عناصرها من هذه اللهجة أو تلك، من هذا المعجم أو ذاك. فنكون أمام لغة مصطنعة وغريبة عن الأمازيغية الحية والمتداولة. وهذا ما ستكون له مضاعفات سلبية على تعلم هذه اللغة، وعلى التحصيل المدرسي بصفة عامة، في حالة ما إذا أصبحت هذه اللغة الأمازيغية “الفصحى” هي لغة التدريس. يضاف إلى ذلك أننا لسنا متأكدين من نجاح عملية “صنع” هذه اللغة المعيارية، ولا نعرف كم سيستغرق ذلك من السنين حتى يخرج هذا المولود الافتراضي إلى الوجود.

لماذا إذن ـ حسب المدافعين عن خيار تدريس اللهجات الجهوية ـ المراهنة على شيء مجهول وافتراضي وغير موجود، أي الأمازيغية المعيارية “الفصحى”، مع أن الأمازيغية، الفعلية والحقيقية والحية والمعروفة، موجودة ومتداولة، تتمثل في الفروع اللهجية الثلاثة؟ يجب، حسب أصحاب هذه الرأي، أن نكون واقعيين وغير حالمين أكثر من اللازم، لأن الأمازيغية المشتركة غير موجودة في التداول والتواصل. لندرّس إذن ما هو جاهز وموجود وحي، أي اللغة الأم التي تمثّلها للهجات الجهوية.

كيف سندرّس اللهجات وما هي نتائج ذلك بالنسبة للأمازيغية كلغة وطنية؟

تدرّس كل لهجة، من اللهجات الثلاث، داخل حدود جهتها الجغرافية (الشمال، المغرب الأوسط، الجنوب). وهنا سنكون أمام احتمالين اثنين فيما يتعلق بمستقبل هذه اللهجات:

أ ـ إما أن هذه اللهجات ستتطور مع مرور السنين لتصير لغات مستقلة وقائمة بذاتها، ولو أنها متفرعة عن لغة واحدة وهي الأمازيغية الأصلية، تماما كما حدث للإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية، التي كانت مجرد لهجات متفرّعة عن لغة أصلية واحدة، وهي اللغة اللاتينية، ثم تطورت وأصبحت لغات قائمة بذاتها رغم أن أصلها اللاتيني واحد. والمؤيدون لهذا الطرح لا يرون في ظهور ثلاث لغات جهوية مستقلة أية خطورة على الوحدة الوطنية، كما تبيّن ذلك أمثلة من عدة دول كإسبانيا وسويسرا وبلجيكا وكندا، ودول أخرى تتعايش داخلها لغات جهوية معترف بها.

ب ـ وإما أن إحدى هذه اللهجات ستنجح، لأسباب سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو حتى ديموغرافية، وبعد عشرات السنين، في فرض تفوّقها وهيمنتها وانتشارها الواسع على حساب اللهجتين الأخريين اللتين ستختفيان تدريجيا، لفسح المجال أمام لغة أمازيغية وطنية واحدة، كانت في الأصل إحدى لهجات الأمازيغية فقط.

لكن هذا الموقف يطرح هو نفسه مشاكل وصعوبات عملية على مستوى التطبيق. أبسطها: ما هي اللهجة التي ستُدرّس بالرباط والدار البيضاء اللتين هما مدينتان تجتمع فيهما كل اللهجات الأمازيغية؟ ما هي الحدود الترابية لكل من اللهجات الثلاث؟ أين تنتهي “الريفية” وتبدأ الزيانية؟ وأين تنتهي هذه وتبدأ “تشلحيت” سوس؟ وبأية لهجة سيتابع دراستَه تلميذٌ من المستوى السابع انتقل من الحسيمة إلى تارودانت؟

لكن، من جهة أخري، إذا كان هذا الموقف يضحّي بوحدة اللغة الأمازيغية، فإنه بالمقابل ينقذ الوحدة بين لغة البيت ولغة المدرسة، ويحافظ على الاستمرارية بينهما تفاديا لحصول قطيعة بين اللغة الأم ولغة المدرسة، كما هو الشأن فيما يتعلق باللغة العربية. وهذا شيء مهم جدا.

ما الأفضل للأمازيغية؟:

في حالة ما إذا لم يكن هناك من خيار ثالث سوى واحد من هذين الخيارين، فما الذي سنختاره، تدريس أمازيغية واحدة أم الأمازيغيات الجهوية الثلاث؟

لا شك أن أغلبية المدافعين عن الأمازيغية سيختارون الطرح الأول الذي يدعو إلى تدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة. لكننا في هذه الحالة لا نفكر ـ تحت الوقع السحري لعبارة “أمازيغية موحّدة” على عقولنا ـ في نتائج تدريس هذه اللغة “الموحّدة” قسرا، والتي ستكون مصطنعة في جزء منها، مما سيجعلها ضعيفة ـ أو حتى منعدمة ـ الصلة باللغة الأم، الشيء الذي ستنتج عنه هوة بين لغة البيت والشارع وبين لغة المدرسة، ولو أنها ستكون أقل عمقا ومسافة من الهوية التي تفصل بين الدارجة واللغة العربية.

إن أسوأ وضع يمكن أن توجد فيه لغة ما، عندما تعتمد كلغة للتدريس، هو وضع اللغة العربية الفصحى، التي لا يتخاطب بها أحد في الدنيا، وليست اللغة الأم لأي أحد في العالم. وهذه القطيعة، بين لغة المدرسة ولغة الحياة اليومية، هي أحد الأسباب الرئيسية لتدني مستوى التعليم بالبلدان التي تستعمل العربية كلغة للتدريس، مثل المغرب. يجب إذن أن نتفادى، مهما كان الثمن، الحالة التي ستوجد فيها أمازيغية البيت والتخاطب مقابل أمازيغية “فصحى”، تكون عبارة عن لغة لا تفهمها ولا تتقنها إلا النخبة، مثلما هو شأن اللغة العربية.

الخلاصة إذن أننا أمام حلين أحلاهما مرّ: إما تدريس أمازيغية موحّدة لكنها غير مستعملة ولا متداولة لأنها ليست باللغة الأم، وإما تدريس اللهجات الجهوية التي هي اللغة الأم الحية، لكنها لا تجعل من الأمازيغية لغة وطنية موحّدة ومشتركة. فما العمل إذن؟

الحل الثالث:

ألا يمكن التفكير في حل ثالث لهذه المعضلة، يتجاوز مساوئ الحلّين السابقين ويحتفظ بمزاياهما، أي تدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة، لكنها تكون في نفس الوقت هي اللغة الأم، المتداولة والمستعملة في التخاطب اليومي؟

قد يبدو في الأمر تناقض واضح، يجعل مثل هذا الحل الثالث مستحيلا: كيف ندرّس لغة موحّدة ومشتركة، وهي في نفس الوقت لهجات جهوية يصعب التفاهم بين الناطقين بهذه اللهجة وبين الناطقين بتلك؟ لكن هذا الاعتراض ليس صحيحا إلا لأننا ننظر إلى الأمازيغية، أولا، كما هي الآن، وانطلاقا، ثانيا، من أنفسنا، نحن الذين لا نجيد، في الغالب الأعم، إلا واحدة من اللهجات الأمازيغية.

أ ـ كما هي الآن: أي أنها لهجات يؤكد الواقع الحالي أنه من الصعب، كما سبقت الإشارة، التفاهم بين أمازيغييْن أحدهما يستعمل لهجة الشمال (الريف) مثلا والآخر يستعمل لهجة الجنوب (سوس).

ب ـ انطلاقا من أنفسنا: أي أننا ننظر إلى المشكلة من خلال تجربتنا الذاتية، التي تثبت أننا لا نعرف إلا لهجة أمازيغية واحدة لا تسمح لنا بفهم واستعمال اللهجات الأمازيغية الأخرى.

لكن عندما نحكم على الأمازيغية كما هي الآن (لهجات يصعب التفاهم بين الناطقين بها)، ومن خلال تجربتنا الذاتية الحالية (لا نعرف ولا نستعمل إلا لهجة واحدة)، نرتكب خطأ في الحكم والتقدير. ذلك أن هذه النظرة السكونية تتعامل مع الأمازيغية كما هي الآن في هذه اللحظة، وكما نحن الآن في هذه اللحظة كذلك. والحال أن هذه الأمازيغية، كما هي الآن، لم يسبق لها أن عرفت التدريس، كما أننا، نحن الذين لا نفهم كل اللهجات الأمازيغية، لم يسبق لنا أن تعلّمنا ودرسنا الأمازيغية في المدرسة. أما الأمازيغية التي نحن بصدد مناقشتها والتساؤل حول تدريسها، فهي التي ستدرّس بالمدارس العمومية، كما أن المعنيين بإمكانية التفاهم المشترك بها ليسوا نحن، بل هم الذين سيدرسونها في المدرسة، أي أبناؤنا وحفدتنا. السؤال إذن لا يتعلق بالأمازيغية كما هي الآن وكما نستعملها نحن الآن، بل السؤال هو: هل يمكن أن يصبح الناطقون بالأمازيغية، بعد مرحلة دراسية معيّنة (عند نهاية المستوى الثانوي الإعدادي مثلا)، قادرين على التفاهم فيما بينهم من خلال استعمال أمازيغية موحّدة ومشتركة، ودون أن يشعروا أنهم إزاء لغة مختلفة عن اللغة الأم أو لغة البيت والشارع؟ فالمسألة إذن تتطلب فترة زمنية قد تمتد من تاريخ التحاق التلميذ بالمدرسة إلى نهاية التعليم الثانوي الإعدادي أو إلى ما بعده. وهنا يطرح السؤال الثاني التالي: كيف يمكن، من الناحية العملية، أن نجعل التلميذ، أثناء هذه الفترة الدراسية، يتقن أمازيغية وطنية موحّدة ومشتركة، ودون أن تكون مختلفة عن الأمازيغية التي اكتسبها في البيت؟

الأمازيغية بين الوحدة النظرية والتنوع العملي:

من الناحية المنهجية والمنطقية، تُشترط المعرفة، الوافية والتامة، باللهجات الجهوية الثلاث، وخصوصا ما يجمع وما يفرّق بينها، ليمكن، بناء على تلك المعرفة، اتخاذ القرار المناسب: تدريس أمازيغية مشتركة غير مختلفة عن اللهجات، أو تدريس اللهجات كلغات مستقلة إذا تبين لنا، من خلال المقارنة بين هذه اللهجات، أن الفوارق بينها كبيرة جدا إلى درجة لا تسمح بأن نجعل منها لغة واحدة ومشتركة، ودون أن تكون لغة مصطنعة لا علاقة لها باللهجات كما هي مستعملة في التداول اليومي.

من المعلوم أن اللهجات الأمازيغية، على اختلافها، شديدة الارتباط بلغة أمازيغية واحدة. مما يجعل هذه اللهجات المتفرعة عنها تشترك في نظام نحوي وصرفي وتركيبي واشتقاقي واحد، حاضر في كل اللهجات تقريبا. وهذا ما وقف عليه المستمزغ الكبير “أندري باسّي” André Basset، الذي، وبعد أن أوضح أن عدد اللهجات الأمازيغية يصل إلى 300 لهجة، كتب بأن بنية اللغة الأمازيغية وعناصرها واستعمالاتها المورفولوجية هي واحدة في كل اللهجات «إلى درجة أن من يتقن جيدا لهجة واحدة، يستطيع في أسابيع قليلة إتقان أية لهجة أخرى أمازيغية كيفما كانت، كما تثبت ذلك التجربة. فلا يتعلق الأمر أبدا بلغة جديدة يتعلمها. وهو شيء فاجأني كثيرا وجعلني أعيد النظر في مشروع عملي المتعلق بالمقارنة بين اللهجات» (Articles de dialectologie berbère, Paris 1959, page 23 – www.vitaminedz.com/articlesfiche/59/59785.pdf ). . هذا مع العلم أن “باسّي” لا يقصد، بهذه المعاينة الميدانية، فقط اللهجات الأمازيغية المغربية، التي هي أصلا جد متقاربة بحكم انتمائها إلى منطقة واحدة هي المغرب، بل هو يتحدث عن كل اللهجات الأمازيغية بكل شمال إفريقيا، والتي ذكر أن عددها يبلغ 300 لهجة. وواضح أن اللهجة، التي يستطيع الشخص تعلمها في أسابيع قليلة، لا يمكن أن تكون لهجة جديدة وأجنبية عنه، بل لا بدّ أنها لهجة ألِفها وخبَرها، وله بالتالي معرفة ودراية بها.

هذا التقارب الكبير جدا بين اللهجات الأمازيغية، والذي تؤكده وحدة نظامها النحوي والصرفي والتركيبي والاشتقاقي، هو الذي يُعتمد كحجة على أن الأمازيغية، بكل فروعها اللهجية، هي لغة واحدة ويجب أن تدرّس بهذه الصفة، إذ ليس هناك ما يدعو إلى التعامل مع فروعها الثلاثة بالمغرب كلغات مستقلة. صحيح أن المقارنة بين اللهجات الأمازيغية، وخصوصا المغربية منها التي تهمنا، تبرز أنها ليست متباعدة إلى الحد الذي يستدعي التعامل معها كلغات مستقلة، مثل البرتغالية والفرنسية والإسبانية، التي هي لغات مستقلة رغم تفرعها عن لغة واحدة هي اللاتينية، لأن الاختلاف بينها كبير جدا إلى درجة لا تسمح بتوحيدها في لغة واحدة.

إذن اللهجات الأمازيغية، وخصوصا المغربية منها، تشكّل لغة واحدة. هذا من الناحية المبدئية والنظرية. لكن من ناحية الواقع التواصلي، قد تتعطل هذه الوحدة اللغوية أو قد تغيب نهائيا، كما في الحالة التي يتعذر فيها التفاهم بين مستعمل لأمازيغية الريف ومستعمل لأمازيغية سوس، مما يضطرهما لترك أمازيغيتهما واستعمال لغة أخرى يتقنانها. هذا واقع نلاحظه ونلمسه في شتى المواقف التواصلية بين مستعملي لهجتين أمازيغيتين مختلفتين. ومعروف أن الذين يدافعون عن تدريس اللهجات الجهوية ينطلقون، سواء منهم أصحاب النوايا الحسنة أو السيئة، من واقع غياب التفاهم بين المستعملين للهجات أمازيغية مختلفة، مما يستنتجون منه أن هذه اللهجات لا تشكل لغة موحّدة ومشتركة، ويجب بالتالي التعامل معها تعليميا كلغات مستقلة بعضها عن البعض. وهذا صحيح عمليا وتواصليا.

مفهوم اللغة الموحّدة:

يحسن، أولا، تعريف المقصود باللغة الموحّدة، لأن هناك، كما رأينا، من يرى أن الأمازيغية لغة موحّدة استنادا إلى نظامها النحوي والصرفي والتركيبي والاشتقاقي، وهناك من يرى، على العكس، أنها لهجات جهوية متفرقة، بدليل أنه لا يمكن التفاهم بين شخصين يستعملان اثنتين من هذه اللهجات. علينا إذن أن نحدّد ماذا نعني باللغة الموحّدة، لنرى، بعد ذلك، هل تندرج ضمنها اللغة الأمازيغية أم لا، وهل، في حالة النفي، من الممكن جعلها موحّدة بالمدرسة، ودون أن تفقد هذه الأمازيغية المدرسية استعمالها في التخاطب كما نستعمل اللهجات؟

اللغة الموحّدة، بالمعنى الحرفي والضيق الذي تعنيه صفة “موحّدة”، هي لغة افتراضية وغير موجودة في الواقع، إلا في فضاءات ضيقة ومعزولة، كما داخل عائلة منطوية على نفسها، لا يعرف أعضاؤها إلا نفس التعابير ونفس الألفاظ المحدودة، التي اكتسبوها كلغة أم انتقلت إليهم من جدتهم، والتي يعيدون إنتاجها كما هي لعدم تواصلهم مع العالم الخارجي بسبب عزلتهم. لهذا فلغتهم موحّدة، أي يستعملون نفس المعجم ونفس التعابير للدلالة على نفس الأشياء. فما يقوله هذا الفرد، من تلك العائلة، عندما يصف حالة الطقس مثلا، يقوله الفرد الآخر، من نفس العائلة، للتعبير عن نفس الموضوع.

هذا النوع من اللغة الموحّدة، المتمثلة في استعمال نفس الألفاظ ونفس الصيغ التعبيرية من طرف الجميع، وبشكل متشابه ومتطابق، للتعبير عن نفس الوضعيات والأحداث، لا وجود لها في الواقع. فمثلا في الفرنسية، هناك من قد يعبّر عن يوم قائظ بالقول:

ـ C’est un jour torride

وآخر قد يقول:

ـ Il fait très chaud aujourd’hui

وثالث قد يقول:

ـ C’est une journée caniculaire

وهي تعابير ثلاثة مختلفة لثلاثة أشخاص مختلفين، لكنها تعني نفس الشيء: “يوم شديد الحر”.

ونفس الشيء نجده في العربية، حيث يمكن التعبير، عن نفس الوضعية التي تخص مثلا إخفاق شخص ما في مهمة طلب منه القيام بها، بكتابة أحدهم:

ـ رجع بخفي حنين من المهمة التي كُلّف بها،

وكتابة آخر:

ـ فشل في المهمة التي أسندت إليه،

وكتابة ثالث:

ـ لم ينجح في المهمة التي أُوكلت له.

فهناك أشخاص ثلاثة يستعملون ثلاث صيغ مختلفة، لكن للتعبير عن وضعية واحدة.

نلاحظ إذن، كما تبيّن الأمثلة، أن مستعملي العربية أو الفرنسية ـ ونفس الشيء في كل اللغات الأخرى ـ لا يستخدمون نفس الألفاظ ونفس الصيغ اللغوية، وبشكل موحّد ومتطابق، للتعبير عن نفس الموضوعات. فهل يعني هذا أن العربية والفرنسية ليستا لغتين موحّدتين؟ الجواب نعم ولا: نعم، ليستا موحّدتين لأن مستخدميهما لا يستعملون، كما رأينا في الأمثلة، نفس المفردات ونفس الصيغ للتعبير عن نفس الوضعيات والأحداث. ولا، هما لغتان موحّدتان لأن مستعملي العربية أو الفرنسية يتفاهمون في ما بينهم بكل يسر، رغم أنهم لا يستخدمون نفس المفردات ونفس الصيغ التعبيرية.

نستنتج إذن أن ما يجعل اللغة موحّدة، ليس استعمالها بطريقة موحّدة ومتطابقة من قبل جميع مستعمليها والناطقين بها، بل التفاهم، في ما بين هؤلاء المستعملين والناطقين، هو ما يجعل منها لغة موحّدة ومشتركة. فوحدة اللغة تكمن، إذن، ليس في استعمالها الموحّد، الذي هو عمليا غير ممكن بصورة مطلقة، بل في التفاهم intercompréhension بين من يستعملونها بطرق هي في الأصل غير موحّدة.

كيف تصبح اللغة موحّدة؟

عذراً التعليقات مغلقة