بخطوات سريعة يقطعون البهو الداخلي في اتجاه القاعة رقم 3، يلتفت حارس الأمن إلى زميله ويغمز إليه بابتسامة ماكرة «اليوم الخميس نعلم بالطبع وقت دخولنا لكن لا أحد منا بإمكانه التنبؤ بوقت المغادرة»، يلتفتان إلى الشاشة الإلكترونية المعلقة على حائط المحكمة، حيث تنشر مواقيت الجلسات وقاعاتها والملفات المعروضة للنقاش، ثم نحو أفواج الوافدين على المحكمة، وتلتقي أعينهما في نظرة خاطفة ومعبرة، ليتجه كل منهما إلى أداء عمله، وعلى شاشة عرض الملفات يبدوا لافتا وجود خمس قضايا قتل من المرجح أن تجهز ويتم النطق بالحكم فيها اليوم.
يقرع جرس الجلسة، تدلف هيأة المحكمة إلى الداخل بعد أن وقف كل من في القاعة، وبإشارة خاطفة من رئيس الجلسة يجلس الجميع، وحدهم رجلا أمن، وأحد أفراد القوات المساعدة داخل القاعة يبقون واقفين وأعينهم يقظة تمسح القاعة ومدخلها الرئيسي.
تبدو القاعة غاصة بالحضور وكل الكراسي مملوءة، وعدد كبير من المواطنين ممن غصت بهم القاعة لم يجدوا بدا من الانحصار في زواياها وعند مدخلها الرئيسي، حتى أن المحامين يجدون صعوبة في اختراق طوابير الأعداد الهائلة والتي تأخرت في الوصول إلى المحكمة ولم تجد مكانا شاغرا.
ومع الصمت المطبق الذي يخيم على الأجواء وسط الحضور بالقاعة رقم 3، والذي لا تكسره سوى همهمات خافتة عند احتدام النقاش بين المحامين عند نقاش الملفات، أو تأوهات مسموعة لذوي المعتقلين، تبدو ملامح الحاضرين منقسمة بين الحيرة والخوف، والترقب.
كان لافتا مشهد امرأة في عقدها الخامس، جلست في مقعد في الصف الأمامي مباشرة وراء هيأة الدفاع، لم تتوقف عن تحريك رأسها والهمس بكلمات خافتة غير مفهومة، وعيناها مركزتان نحو نقطة خلف المكان الذي يجلس فيه رئيس الهيأة، لا يبدو عليها بأنها منتبهة لأي شيء يدور داخل القاعة، فقط نظراتها الشاردة توحي أنها تحمل على كاهلها هموما لا تطاق. نعلم في ما بعد أنها تنتظر الحكم في ملف جنائي يتعلق بجريمة قتل تعرض لها ابنها ذو الثانية والعشرين. غير بعيد عن المرأة، وفي المقاعد المخصصة للرجال، تبدو ملامح شيخ في عقده السادس أكثر تعبيرا ووضوحا، وعلى عكس المرأة لم يفوت دقيقة دون التعبير بشكل مسموع عن غضبه واستيائه، وحدها دموعه التي كانت تنهمر بغزارة من عينيه تنقذ الجالسين بجواره من ضجيجه غير المقصود، لكن سرعان ما يكفكف دموعه بعصبية ويعود إلى ترديد لازمته « قتلوك ا وليدي امحمد قتلوك الكفرة بالله»، جملة وإن أزعجت مجاوروه في المقعد، لكنها كانت تخترق آذانهم وقلوبهم وتفرض عليهم إغماض أعينهم لبرهة وإطلاق زفير حار يختزل تأثرهم وتعاطفهم مع مصاب الشيخ.
ينادي رئيس الجلسة على ملف متعلق بجناية الضرب والجرح بالسلاح المفضيين إلى الموت دون نية إحداثه، يقف ثلاثة متهمين بقفص الاتهام، وامرأة في عقدها السادس على يمينهم، تنخرط في موجة بكاء هستيري، يحاول رئيس الجلسة بكل الطرق تهدئتها والالحاح عليها بضرورة الانضباط أمام هيأة المحكمة، فتسكت برهة، لكن سرعان ما تصرخ بصوت عال كلما أحست بأن إفادة متهم أو شاهد لا تقنعها أولا تتماشى مع ما تعتقده، نعلم في ما بعد أنها والدة شاب قتل خلال حفل زفاف، وشقيقها من بين المتهمين بقتله، وهو أمر لا تستسيغه، وترمي الاتهام في كل فرصة وحين إلى المتهم الثاني، وظلت طيلة أطوار الجلسة بمشاعر مختلفة ومتناقضة، متأثرة بوفاة فلذة كبدها ومطالبة بإنزال العقاب بالفاعل، ومرعوبة لاتهام شقيقها بالفعلة وهو ما تنفيه و لا تترك المجال لأي شخص داخل المحكمة لطرح فرضيته، وهو ما جعل رئيس الجلسة يتعامل معها بحزم ويلزمها بالصمت وإلا سيكون مآلها الطرد من قاعة الجلسة. وتكتمل غرائبية مشهد مناقشة القضية بإفادات الشهود من الدوار الذي وقعت فيه الجريمة، تقدم للشهادة أربعة شباب ممن ادعوا أنهم كانوا حاضرين وقت وقوع الجريمة، اثنان منهم أديا اليمين على أن المتهم الأول هو الفاعل، واثنان أقسما أن المتهم الثاني (خال الضحية) هو الفاعل، فتحولت منصة الشهود إلى ساحة لتبادل الاتهامات بينهم بالسكر وعدم الوجود ساعتها بمسرح الجريمة، الأمر الذي دفع رئيس الجلسة إلى تأجيل النظر في القضية، ومخاطبة الشباب الأربعة بحدة وحزم، وتذكيرهم بأنهم أقسموا اليمين على قول الحقيقة، وتنبيههم بالعواقب الدينية والدنيوية لشهاداتهم.
خارج القاعة تختلف ردود الأفعال بين فرح بالحكم الذي ناله قريبه، وحزين لقرار كان يمني النفس بأفضل منه، لكن الأغلبية تنخرط في حزن عميق وبكاء هستيري يستمر حتى خارج بوابة المحكمة، وعلى عكس الحالة التي كان عليها الشيخ داخل القاعة، يبدو أنه استسلم لهدوء عجيب وهو يقطع الممر المؤدي إلى باب المحكمة، ولم يعر انتباها للشخص الذي كان بجواره وهو يودعه ويبتهل إلى الله أن يرزقه الصبر في مصابه، حيث أجابه دون أن يلتفت إليه: «سأذهب لأنام، منذ وفاة امحمد لم يغمض لعيني جفن..». وحدها امرأة بقيت واقفة للحظات أمام باب القاعة تم بدأت تسير بخطوات متباطئة نحو البوابة، ولم يبد عليها أنها سمعت أو انتبهت لهاتفها المحمول وهو يرن، قبل أن تجيب في الأخير دون النظر إلى شاشته لتبين هوية المتصل، وبصوت هادئ كسر الهدوء الذي خيم على بهو المحكمة بعد مغادرة الجميع تجيب الطرف الاخر: « نعم سيسجن.. لكن ذلك لم يحرك في شيئا حتى أني لم أحس ولو بالقليل من الارتياح .. مات مراد ولن يعود هذا هو الواقع» ثم رمت الهاتف بحقيبتها دون حتى أن تغلق الخط، وانخرطت في موجة بكاء هستيرية وهي تسارع الخطى خارج أسوار المحكمة.
انتظار بطعم الألم
مع الانتهاء من الأربعة وخمسين ملفا المبرمجة، يرفع الرئيس الجلسة، ويغادر رفقة هيأته القاعة، فينتشر الحاضرون ببهو المحكمة في انتظار عودة الهيأة للنطق بالأحكام، ينخرط بعضهم في أحاديث مع بعض المحامين، فيما يختار آخرون الانزواء بالبهو وملامح الترقب والخوف لا تفارقهم، تمضي الدقائق والساعات بطيئة وعقول الجميع معلقة في انتظار ما ستأتي من قرارات، تختلف التكهنات بين متفائلين لا تخطئ العين المجردة أنهم يظهرونها كي يداروا خوفهم وقلقهم، ثم يقرع جرس القاعة فيهرول الجميع إلى داخلها ودقات القلوب ترتفع، يبدأ رئيس الجلسة في استدعاء المتهمين ويتلو الأحكام على مسامعهم، ثم يعلن رفع الجلسة عند انتهائه من جميع الملفات.
المصدر : https://akhbarsettat.com/?p=528
عذراً التعليقات مغلقة