في الماضي القريب كان الانتماء لرقعة جغرافية يعني الكثير، يعني بأنها تتملك الانسان ويتملكها بكل ما يحمل من مشاعر وأحاسيس، لا البعد الجغرافي شكل حاجزا أمام تحرر هذه المشاعر، ولا تقاطع الاهتمامات والمشاغل كان يبعد فكرة “البليدة”.
اليوم أصبح الانتماء والتعبير عنه مسخا دميما يتخذ أشكال تسيئ لرمزية الانسان وتخدش صورة المجال، في المخيال الجماعي للمجتمع، مع نخب بين قوسين تحضر لمنطقتها من أجل توزيع ” حوليات” يحفهم المصورون والصحافيون، وآخرون يجمعون جوقة “الطبالة والغياطة” من أجل توزيع قفف الزيت والسكر والدقيق عشية كل رمضان.
للمجال والانسان ارتباط وثيق لا يمكن أن يحكمه الى ايمان عميق بهذا الرباط، ونية صافية صادقة لفكرة حقيقية تنتصر ل (نا) الجماعة، وليس للذاتية الضيقة.
لكن وسط كل هذه الفوضى، تنبعث استثناءات تعيد احياء الأمل في “ولاد وبنات لبلاد” والاستثناء هنا صنعته تجربة جميلة بمجال غير بعيد عن المجال الحضري لمدينة سطات، وبالضبط باولاد امعمر التابعة ترابيا لجماعة الحوازة، مع أطر محلية لها مكانة وازنة داخل وخارج أرض الوطن، يشتغلون تحت لواء جمعية مجلية أسسوها تحت اسم “الرحمان”، المثير في تجربة أولاد امعمر هو حجم الطاقات والكفاءات المنخرطة في المبادرة، ليس فقط بالعضوية والبطاقة والاشتراك السنوي، بل بالعمل الميداني، رجال أعمال كبار من الدار البيضاء يشتغلون في قطاعات التصدير والاستيراد والنقل والسياحة والتجارة، أطباء كبار بل من بينهم من يعتبر مرجعا وطنيا ودوليا في اختصاصهم، محامون، قضاة، اطر سامية في اسلاك الامن والدرك، مستثمرون بكندا وأوربا وامريكا، أطر وفعاليات جمعوية داخل وخارج أرض الوطن، فلاحون من أولاد امعمر… والمشترك بين كل هؤلاء أنهم اختاروا تقضية عطلتهم السنوية داخل دواوير أولاد امعمر يشتغلون بسواعدهم في آخر مشاريع الجمعية وهو الربط الفردي بالماء الصالح للشرب، يحملون الفؤوس ويروون التربة بعرقهم وجهدهم، دون سيلفيات دون صور دون فيديوهات ودون صحافة، حتى أن مبادراتهم لا يتم التعبير عنها داخل وسائط التواصل الاجتماعي، اللهم مجموعة على “الواتساب” تضم أكثر من 300 اطار ” معمري” يتداولون من خلالها حول خطواتهم ويوزعون المهام فيما بينهم داخلها.
ليس من بينهم جينرالات الانتخابات ولا مهووسون بالسياسة، برنامجهم هو أولاد امعمر وهدفهم تنمية أرض الأجداد.
في الواقع تجربة جميلة تستحق أن تحكى، رغم أن أبطالها يرفضون تحويل عمل جمعيتهم الى مادة للاستهلاك الإعلامي، لكنه درس بليغ، درس الانسان بأولاد سعيد، بأولاد امعمر، بأنه مهما ابعدتهم الظروف عن مسقط الرأس تبقى قضاياه الحيوية في العقل والقلب، والمساهمة في التنمية هي واجب وليست فقط تدوينات على الفاسبوك.
النخب المحلية لأولاد امعمر اهتدت لفكرة إقامة مهرجان يشكل نقطة تلاقي للمعمريين ولأبناء أولاد سعيد داخل وخارج أرض الوطن، مهرجان بموسم للتبوريدة يضاهي مثيله الذي أشرفت على تنظيمه الجماعة الحضرية لسطات، وبأروقة ومعرض، وبسهرات فنيات وسباق علي الطريق وغيرها من الفقرات والفعاليات، الفرق يكمن بأن الجهة المنظمة ليست جمعية أسسها المجلس الجماعي وصب في حسابها البنكي أموال من ميزانية الجماعة من أجل التنظيم كما هو الحال بالنسبة للعديد من المجالس، بل إن جميع مصاريف المهرجان من المال الخاص لأعضاء الجمعية، وهو أمر يحسب لمنظمي المهرجان لأنهم قدروا بأنه رغم دوره الاشعاعي الكبير للمنطقة ككل فإن ميزانية الجماعة بإمكانها أن تصرف في أمور أخرى تعود أيضا بالنفع على الساكنة.
تجربة نخب أولاد امعمر تستحق الوقوف عندها كثيرا، فماذا لو هب أطر ونخب كل مناطق الاقليم للمساهمة في تنمية مسقط رأسهم، دون حسابات الصورة والسياسة والوجاهة، بنية خالصة لله وللوطن …
ماذا لو …
المصدر : https://akhbarsettat.com/?p=102
عذراً التعليقات مغلقة